تطبيق السعادة

عاد مأمون إلى كوكب الأرض بعد رحلة استغرقته عشر سنوات أرضية إلى مجموعة من الكواكب المجاورة ضمن مهمة فريقه العلمي. وبعد أن انتهت كل إجراءات ختام الرحلة، من تقارير وفحوصات طبية وخلافه. استقل مأمون الطائرة عائدا الى بلدته، محملا بالشوق الكبير لأهله وأصدقائه ومعارفه. 

دخل بيتهم الذي غادره منذ أكثر من عشر سنوات، حيث كان التواصل مع أهله شبه منقطع إلا من رسائل مسجلة تأتيه كل فترة للاطمئنان..  

ما أن وصل وسلم على أهله (من بقي منهم حيا ومن لم يسافر خارج البلاد) حتى بدأ يرسل رسائل لاصدقائه المقربين، يخبرهم بعودته ويطمئن عن أحوالهم، ويسأل متى سيكون مناسبا ان يلتقوا.. 

كانت مفاجأته الاولى ان احدا منهم لم يرد على رسالته. ولم يعاود أحد الاتصال به. قال لنفسه ربما تغيرت ارقامهم، حاول الاتصال ببعضهم، فجاءه الرد الآلي للبريد الصوتي، وهو يذكر ان هذا رقم فلان، ويطلب منه ان يترك رسالة ان كان الامر هاما. دهش أول الأمر، أن هذا الرقم صحيح للشخص نفسه، لكنه لم يرد على رسالته سابقا. ترك لهم رسائل صوتية وانتظر ان يتصل احد منهم، لكن بلا فائدة. 

بدأ يحزن في نفسه، هل حدث لهم شيئا؟ هل هم بخير؟ هل قرروا هجره؟ جميعهم؟ ما القصة؟ 

بعد تردد، قرر أن يذهب لزيارة أحدهم في بيته. أخذ السيارة وتوقف أمام ما كان يذكر انه بيت صديقه أحمد. كان مفعما بالمشاعر، كيف سيبدو؟ تجاعيد؟ شيب؟ هل تزوج؟ عائلة؟ أولاد؟ 

وجد جهاز انتركم على باب البيت، ضغط الجرس، رد عليه صوت روبوتي: أهلا بك في بيت أحمد.. اذا كان لديك موعد مسبق للزيارة ادخل او قل رقم الموعد، وإذا لم يكن لديك. ادخل او قل رقم هاتفك وسنعيد الاتصال بك لتحديد موعد. شكرا. 

صعق مأمون، قال اريد ان ارى احمد، انا صديقه مأمون… قال كلاما كثيرا لكن صمتا مطبقا حل على هذا الروبوت، لم يحر أي جواب ولا حتى رنة أو صوت رغم أن مأمون أعاد الضغط على الجرس مرارا.. 

واستدار مأمون وعاد الى سيارته كاسف البال، لا يدري ما الذي حل بالناس.

حاول اعادة الكرة مع صديقه ماجد، لكنه واجه نفس الاستقبال تقريبا.. 

عاد الى البيت، وجلس ساهما متجهما، فجاءت أخته وقد لاحظت تعابير وجهه. قالت هل هناك ما يمكنني المساعدة به يا مأمون؟ قال لها، لا ادري ان كان بامكانك مساعدتي. قالت بطريقة شبه آمرة، بامكانك ترك رسالة لي تشرح الموضوع وسأرى إن كان بإمكاني مساعدتك. قالت هذا وهي تمضي الى غرفتها دون ان تنتظر جوابه. 

لحق بها مأمون، فوجدها قد أغلقت الباب، هم ان يقترب ليطرقه، لكنه على بعد خطوة من الباب سمع صوتا روبوتيا يقول: الرجاء عدم الازعاج، اذا كان هناك أمر طارئ ابعث رسالة إلى كاتي. 

كاتي؟ من هي كاتي هذه؟ وتقدم فطرق الباب، ثم أعاد الطرق مرة اخرى.. ففتحت اخته الباب وهي تمسك بهاتفها. قالت مستغربة، مالك مأمون، في شي؟ قال لها بعصبية، ايش هذا يا هالة، ايش رسالة واذا هناك طارئ؟ ومين هاي كاتي؟ انا اخوك بدي احكي معك، شو عم بيصير؟ ليش الناس هيك صايرين زي الروبوتات؟ 

ضحكت هالة وقالت، آه صحيح، أنا نسيت أنك غايب عشر سنوات عن الحضارة،  قال بعصبية، أية حضارة هذه؟ الحياة الروبوتية؟

قالت هالة طيب تعال أفهمك ياخوي. واخذته الى المطبخ وطلبت من كاتي فنجاني قهوة وجلست مع أخيها إلى طاولة السفرة، وهو ينظر ويترقب الجهة التي ستأتي منها كاتي؟

بدأت هالة تحكي له.. شوف يا مأمون، هناك تطبيق اسمه تطبيق السعادة. تضعه على هاتفك، وتربطه بالروبوت المركزي للبيت. اتسعت عينا مأمون، وتابعت هالة، هذا التطبيق يتولى تحقيق كل ما يجلب لك السعادة، ويلغي من حياتك كل ما يمكن أن ينغصها. 

سمع مأمون نغمة مزدوجة “تي تي” ثم انفتحت فتحة تحت خزانة المطبخ ورأى كوبين من القهوة مع صوت كاتي يقول القهوة يا هالة. فقامت هالة وأحضرت الكوبين وجلست تكمل حديثها…

هذا التطبيق ذكي جدا، وشخصي، تعلمه في البداية كل ما تحب وما لا تحب، تحكي له كل اسرارك وتعرف له الأشخاص الذين تعرفهم وتخبره بدرجة توافقك أو تقبلك لكل شخص، وتخبره بالذين تكرههم أو حتى تغار منهم، اعتبره اخوك صديقك صديقتك، وقل له كل ما تريد. 

نظر اليها مأمون قائلا.. يا سلام، بهالبساطة؟ 

قالت لا، لانه بعد ذلك سيبدأ بقراءة ملامح وجهك وما تقول في حديثك للناس وفي الهاتف ويبدأ بتكوين فكرة عن ما يسعدك ومالا يسعدك، وما يضايقك وما يجعلك عصبيا. يمكنك احيانا ان تتكلم اليه، تبلغه بما يضايقك، أو تترك له ان يكون فكرة عن ذلك لوحده، وفي الغالب هذا افضل، ويتصرف بناء على ذلك.. 

قاطعها مأمون، هل أنت مدركة لخطورة ما تقولين؟ كيف تدعين آلة تشكل فكرة عن شخصيتك، وتتصرف بناء على ذلك؟ شو يعني يتصرف؟ 

اه نعم، يتصرف يعني، هو يحدد مع من تتحدث مع من لا تتحدث، يستقبل كل الرسائل، ويفرزها حسب المرسل والمحتوى، ويمرر لك فقط الرسائل التي تسعدك ويحجب تلك التي يمكن أن توترك، ويتولى هو الرد عليها والتعامل معها.. 

قال مأمون مستهجنا، نعم نعم؟ 

قالت هالة ضاحكة، والله ياخوي لما تجربه رايح تحبه كثير.. راسك بيرتاح وبتصير الدنيا كثير احلى.. 

قال مأمون، انتي بتعرفي المخدرات؟ هذا أسوأ من المخدرات.

قالت ضاحكة، غلطان ياخوي، والله مع تعقيدات الحياة اللي وصلنالها في اخر كم سنة، صار الواحد بحاجة للهدوء، لانه كثير من العلاقات صارت صداع وبس. 

يا هالة اصدقائي المقربين مش عارف اوصل لحدا منهم.. ما بيردوا على تلفوناتي ولا رسائلي، حتى لما رحت ازور بيت واحد منهم اليوم، رد علي الروبوت عالانتركم قال بده رقم الموعد!! 

طبعا ليش مستغرب، بدك يعني فجأة تلاقي واحد على باب بيتك جاي زيارة، لا موعد ولا ترتيب؟ 

ياهالة قلتلك ما بيردوا على رسائل ولا مكالمات، كيف بدي أعمل موعد؟ 

طبعا مهو ياخوي لازم التطبيق بتاعك يتواصل مع التطبيق بتاع صديقك ويرتب كل شي. انت ليش تتعب حالك؟ 

قال وهو يشدد على كل كلمة، واذا ما عندي تطبيق؟ ضحكت هالة وقالت سامحني، بس بتكون لسه عايش برا الكوكب. 

أطرق مأمون مفكرا، كل هذا طرأ خلال عشر سنين؟ هل استعبدتنا التكنولوجيا لهذه الدرجة؟ أين المشاعر؟ اين الانسانية؟ هل اختفت من قلوب الناس معاني الحب والألفة، الصداقة، الرحمة؟ أخرجه من سيل أفكاره صوت هالة وهي تقول لكاتي، هذا اخوي مأمون، وهو من الحبايب، لا ترفضي له طلب، ولما يجيب التطبيق بتساعدي تطبيقه يتعرف على النظام. 

قالت لمأمون وهو ينظر مستفسرا، كاتي هي تطبيق السعادة بتاعي، الصراحة هي اقرب صديقة لي، تعرف كل اسراري وتفهمني بمجرد أن أنظر في شاشة تلفوني. 

طيب وصديقاتك بالله، كنت اذكر عندك اكثر من عشر صديقات. قالت وهي تنفض يديها، كذب كلام فاضي، بمجرد ما نزلنا التطبيق على التلفونات، بدأت العلاقات تتباعد، لما بدأ التطبيق يشطب من قوائم الاتصال الأشخاص غير المرغوبين، اكتشفت ان معظمنا كنا ننافق بعض، فالتطبيقات بدأت تستقبل رسائل المجاملة الزائفة وتشطبها، وانتهى الأمر بالصمت التام خلال شهور. وطبعا التطبيق بيعرف الارقام اللي ما بيصير عليها تواصل لمدة معينة، فبيبدأ يحجب رسائلها وتدريجيا بيحجب الشخص كليا عنك.. اريحلك يا زلمة. بدل احراج قطع العلاقة صراحة، هو بيبعد وانت بتبعد، وخلص، والتطبيق بيزبط الأمور. 

قال مأمون بنبرة فيها براءة، طيب واذا واحد بيحب صاحبه وما بده يقطع معه؟ ردت عليه وهي تنظر بطرف عينها، ياخوي خليك واقعي، واحد ما بده اياك، شو بدك فيه؟

قال بنبرة مترددة، طيب واذا واحد بيحب وحدة، كيف بده يتواصل معها؟ ضحكت هالة وقالت بطريقة متهكمة لازم التطبيق بتاعها يحب التطبيق تبعه مشان يسمحله يحكي معها. ثم اخذ كلامها لهجة النصح، يا خوي هو ظل في حب وكلام فاضي؟ انت منين جاي؟ 

ياخوي الحب صار نوع من الهبل اللي كان يمارسه الناس زمان، وغالبا كانوا يخدعوا انفسهم. اليوم العلاقات كلها مصالح، اذا حست عندها مصلحة معك بتفتحلك باب التطبيق، غير ذلك بتدخلك في عملية تجميد، ابعاد، شطب. 

صمت مأمون فترة، قالت له هالة، عن اذنك ياخوي انا مرتبطة بمشاغل، بس لما تحتاج اي شي نادي كاتي وهي بتوصلك الي او بتعملك اللي بدك اياه. قال مأمون، وكيف بتعرفني كاتي؟ قالتله بنبرة عتب، ولو ياخوي، ما سمعتني وانا بقلها هذا مامون اخوي من دائرة الحبايب، قال طيب؟ وهيك خلص عرفتني؟ قالت طبعا، بتكون خزنت صورتك ونبرة صوتك، فبتعرفك على طول. انكمش مأمون وقال، ليش هي وين؟ مش في تلفونك؟ قالت هالة ضاحكة، هي في كل مكان في البيت وفي السيارة وفي المكتب، غير ذلك في التلفون بس. نظر مامون حوله، فهمت اخته فأشارت إلى ركن سقف المطبخ، هاي كاميرا، وفي كل ركن في البيت كاميرا، ومعها ميكروفون. حدق مأمون في وجه أخته، قالت فهمتك، لا تخاف، كل شي سري، حتى خصوصياتك في غرفتك، تطبيقك ما بيفرط فيها أبدا. 

طيب شو بالنسبة لحازم وسمية؟ (إخوته)، قالت هالة، نفس الشي، كل واحد عنده تطبيقه، سمية ممكن تحكيلك عن تطبيقها، وحازم لما يرجع من السفر كمان بيعرفك على تطبيقه. قال مأمون، وكلهم بيستعملوا نفس الكاميرات؟ ردت هالة، طبعا، بس كل واحد تطبيقه بياخذ اللي بيخصه وبيشطب الباقي. قال مأمون بسخرية، لا والله ثقة. قالت هالة، هو ثقة جدا، بس يا سيدي حتى لو انت مش واثق، بالآخر هذول أهلك، والمفروض انهم مؤتمنين على أسرارك. تطلع إليها مأمون مستنكرا، مؤتمنين أكثر من كاتي؟ رفعت كتفيها وقالت، سؤال مهم الصراحة. وضحكت بخبث ومضت.

بقي مأمون جالسا يفكر في كل ما سمع. لأول مرة أحس نفسه عاد إلى كوكب آخر غير الأرض. ترى ماذا يمكنه ان يفعل ليعود إلى حياته السابقة، الطبيعية الإنسانية…

في اليوم التالي، قرر الخروج في جولة في المدينة، نزل إلى الكراج، ركب السيارة التي تعود للعائلة، بمجرد أن دخل السيارة رحب به صوت كاتي، أهلا مأمون، إلى أين تريد أن تذهب اليوم؟ نظر حوله، ثم أجاب باقتضاب، ما في مكان محدد، جولة حول المدينة. قالت كاتي، هل تحب أن أقود لك السيارة، أم تقودها انت؟ نظر مصعوقا ورد بحزم، لا لا.. أنا بسوق. قالت حسنا إذا احتجت إلى أية نصيحة حول الأماكن اسألني.. لم يجب مأمون، ومضى بالسيارة في طريقه الذي اعتاد أن يسلكه إلى وسط المدينة. لم تتغير المعالم كثيرا، لكنه لاحظ أن كثيرا من السيارات لا يقودها أصحابها، بل ينشغلون بأمور أخرى، بينما هي تقاد ذاتيا.

في نهاية اليوم عاد إلى البيت، وجلس مع أختيه ففاجأتاه بالمزيد والمزيد عن تطبيق السعادة، وشجعتاه على اقتناء التطبيق والبدء بتعريفه على نفسه لكي تسير حياته بشكل أسهل وأمتع. لكنه وقد كان يصغي لكل ما تقولانه، كان قد أضمر شيئا مختلفا. 

بعد عدة أشهر، كان قد اشترى مزرعة في أقصى شمال البلاد، فيها بيت ريفي جميل مؤثث باثاث مريح، وكان عنده بعض الأغنام والدواجن وحيوانات أخرى. كانت هناك بحيرة تحاذي السياج الشرقي للمزرعة حيث اعتاد أن  بجلس هناك كل صباح قبيل طلوع الشمس  يتأمل الشروق، ويستمع إلى أصوات الطيور..

اقتنى هاتفا بدون أية تطبيقات، وقال لإخوته، إذا اشتقتم أن تعيشوا بضعة أيام من الحياة البشرية وليس الروبوتية، فأهلا بكم في كوكبي..

– – – – – – – 

مع تحياتي

محمد عوض الله



unriyo