تنفيس كوكب الأرض

نظرت الى المكنسة الكهربائية وهي تشفط الغبار والقمامة وتبتلعها داخل الأنبوب الغليظ لتمضي بها الى الحجرة التي تجمع كل ما تبتلع هذه المكنسة. ولأنني أعلم أن تفريغ الهواء جزئيا من هذه الحجرة المتصلة بالانبوب هو الذي يجعل فوهة الأنبوب تبتلع كل ما يمكنها بسبب تيار الهواء الذي يتدفق من نقطة فيها ضغط الغرفة الطبيعي الى داخل الحجرة حيث ينخفض الضغط “قليلا”. وهذا في الواقع ما تفعله مفرغة الهواء في المختبرات، فهي تصل نقطة ذات ضغط منخفض، بنقطة اخرى ذات ضغط اعلى “قليلا”، وهكذا يتدفق الهواء باتجاه الضغط الأقل.

حسنا، دار بخلدي حينها لو أن أنبوبا عملاقا أتى به عفريت ضخم من الفضاء الخارجي فغمسه في الغلاف الجوي للأرض حتى وصل إلى نقطة قرب سطح الأرض، بينما طرفه الآخر يمتد في الفضاء، فما الذي سيحدث عندها؟ يا للهول الضغط الجوي عند سطح الأرض مرتفع كما نعلم، وكما يقيسه البارومتر، بينما الضغط في الفضاء الخارجي هو صفر تقريبا. فالواضح إذن، أن مفرغة هواء عملاقة ستتكون من هذا الأنبوب بطرفيه الذين يقعان في نقطتين بينهما فرق هائل في الضغط. لذلك فستبدأ هذه المفرغة بشفط كل ما حول هذا الأنبوب من هواء وأجسام حجمها يتناسب مع فتحة الانبوب، وسيلقى بها بقوة رهيبة الى الفضاء الخارجي. يا إلهي، والهواء والتراب والبشر إن اتسع الانبوب. ستكون العملية أشبه بثقب أحدث في بالون كبير منتفخ، فبدأ بالتنفيس ونفث الهواء بقوة، وإذن هل سيتم “تنفيس” الغلاف الجوي للأرض، ونفث كل الهواء وما يسبح فيه، وربما الماء أيضا، إلى الفضاء الخارجي؟ وهل ستغدو الأرض ذات سطح صلد أصم كسطح القمر، يا له من مصير رهيب. وإذن فسوف تنتهي الحياة وربما أكثر من ذلك ربما انفجرت البراكين نتيجة زوال الضغط الذي يجثم على المناطق الضعيفة من القشرة الأرضية، وتعود الأرض الى صورة بدائية تحاكي ما هو عليه حال كواكب كثيرة في طور التكوين.

أفقت من شرودي وتخيلاتي، وقلت لنفسي، مهلا يا رجل، أي عفريت وأي أنبوب عملاق هذا؟ وأين ذهبت بالفيزياء التي تعلمتها وعلمتها لعشرات السنين. هذا السيناريو ببساطة مستحيل. ليس لأنه لا يوجد عفاريت أو أنابيب بهذا الحجم. ولكن لأنه حتى لو وجد العفريت والأنبوب، فأن الهواء سيرفض أن يتدفق من فتحة الأنبوب هذه إلى الفتحة الأخرى، وسوف تفشل كل محاولات العفريت المحترم لتشغيل مفرغة الهواء الفاشلة التي جاء بها. والسؤال الذي يبرز بقوة هنا هو، لماذا ستفشل هذه المضخة، في حين تعمل مثيلاتها على الأرض بكفاءة وفعالية؟

ولنصل إلى الجواب، دعنا نتأمل تجربة مماثلة باستخدام الماء. إذ هل تعلم ان مضخة ماصة (شافطة) للماء لا يمكنها أن ترفع الماء لأكثر من عشرة أمتار ونصف؟ حقا؟! لماذا؟ لأن وزن عمود الماء في الأنبوب، عندئذ (بارتفاع 10.5 مترا) سوف يساوي وزن عمود الهواء الذي سيضغط على الماء عند قاع الأنبوب ليدفعه للصعود إلى حيث نقطة الشفط (المضخة). وبذلك فسوف “يرفض” الماء الصعود أكثر من ذلك! حسنا، يبدو أن الفكرة لم تصل تماما. لنذهب إلى قصة أخرى أبسط.

هل سمعت عن مقياس الضغط الجوي الزئبقي (الباروميتر)؟ نعم الذي اخترعه العالم الإيطالي تورشلي، أواسط القرن السابع عشر؟ ذلك الجهاز البسيط المكون من أنبوب زجاجي طوله متر واحد، يملأ بالزئبق ثم ينكس عموديا وفوهته في وعاء مملوء أيضا بالزئبق؟ ما الذي يحدث عندئذ؟ ينزل مستوى الزئبق في الأنبوب الى أن يصبح ارتفاعه 76 سنتيمترا فقط (في مستوى سطح البحر)، بينما يبقى ما فوق سطح الزئبق في الأنبوب فارغا. وهنا فارغا لا تعني من الزئبق فقط، بل من أي شيء آخر، يعني “فراغ” كما في الفضاء الخارجي. وقد سمي هذا “فراغ تورشلي”. فالزئبق رفض ان يصعد لارتفاع أعلى، والتفسير أنه انما يعادل بوزنه وزن عمود الهواء الذي يفترض أن يدفعه للصعود أكثر. وبلغة الضغط، فإن الضغط عند قاعدة الأنبوب الناتج عن وزن عمود الزئبق، يساوي تماما الضغط عند نفس القاعدة الناتج عن وزن عمود الهواء، لذلك، نقيس الضغط الجوي بأنه الضغط الناتج عن عمود الزئبق الذي ارتفاعه 76 سنتيمتر. فنقول ان الضغط الجوي عند سطح البحر هو 760 ملم زئبق (تزيد أو تنقص قليلا حسب الأحوال الجوية).

نعود إذن إلى عمود الماء الذي ارتفاعه عشرة أمتار ونصف (أو بدقة أكثر 10.34 سنتيمتر)، والذي يمكننا أيضا اتخاذه مقياسا للضغط الجوي. والذي يترك فوقه فراغا في الأنبوب يمكننا أيضا تسميته فراغ تورشللي. وهنا أيضا نرى الماء وفوقه ضغط مقداره صفر كما هو الحال في الفضاء الخارجي، لكنه “يرفض” الصعود في الأنبوب، ويجعل المضخة الماصة فاشلة بعد هذا الارتفاع، تماما، كما كانت مضخة أخينا العفريت العملاقة فاشلة أيضا في تنفيس الغلاف الجوي لكوكبنا الحبيب.

في الختام، ما هو سر هذا “الرفض” الذي أبداه الهواء والماء والزئبق، والذي أدى إلى هذا الفشل للمضخات السابقة؟ إنه وجود الجاذبية، التي نعبر عنها بوزن كل من الهواء والماء والزئبق. وهي التي تمنع كلا من هذه المواد الثلاث من الاستجابة لإغراء الفضاء، والتحليق صاعدة في رحاب الفراغ “الجاثم” فوق كل منها. ولو أن الجاذبية اختفت، لوجدت كلا من هذه المواد الثلاث، بل وكل ما على سطح الأرض، يسبح حرا طليقا، يحلق نحو كبد السماء، “منتشرا” بلا حدود في غياهب الفضاء السحيق. وعندها سيغدو سطح الأرض أشبه بسطح القمر أو سطح عطارد، جامدا صلدا، فارغا من كل مظاهر الحياة والجمال التي يتألق بها صباحا ومساء وعلى مدار الأيام والفصول.

محمد عوض الله



unriyo