عربية العلوم.. عربية الفكر

التفكير باللغة العربية، الغناء باللغة العربية، الحلم باللغة العربية كل هذه مقومات مهمة لانغراس الثقافة العربية في عقول الناس وخاصة الشباب. حيث دخول اللغة أو اللغات الأجنبية إلى قاموس مفرداتهم وتفكيرهم يجعل التفكير الصافي الأصيل مشوشا.

ربما يتساءل المرء، وما علاقة اللغة بالتفكير الصافي؟ يمكن أن أفكر بأية لغة دون التأثير على محتوى الفكر ذاته. وهذا في الواقع خطأ، لأن الوعاء اللغوي بما يحتويه من حصيلة مفردات ومصطلحات ووصف الأشياء والمشاعر والسلوكيات.. الخ. إنما تنبع من كيفية رؤية القوم الذين عاشوا واستخدموا هذه المصطلحات والأوصاف في حياتهم اليومية على مدى قرون طويلة.

لا يمكنك أن تصف شيئا تحسه وتعيشه بالعربية لشخص فرنسي مثلا بلغته، ثم تضمن أن ما وصله منك هو بالضبط ما قصدت أن توصله. فهو سوف يفهم شيئا من ثقافته أقرب ما يكون لما وصفته، لكن ليس هو نفس الشيء. من هنا يقال أن من الصعب ترجمة الطرفة أو النكتة، لأن النكتة ليست بكلماتها فقط بل هي بالروح والإحساس الذي يصاحب إلقاءها واستعداد المتلقين لها لأخذها بأسلوب الفكاهة والدعابة.

إذن فما علاقة العلوم بذلك؟ نعم العلوم أكثر مادية وتجريدا وربما أمكن تصور المقصود منها بأية لغة، بطريقة أقرب للواقع لكن التصور والانطلاق في الخيال الذي هو أساس للبناء العلمي وخاصة النظري لا يمكن أن يحدد أو يقيد بالنص المكتوب أو المحاضرة المصوغة بلغة معينة، بل لا بد له من الدخول في فكر وخيال وبالتالي لغة العالم الذي يحلق به في تصوراته الخاصة وفهمه الخاص للكون والظواهر وكل الخبرات والتراكمات السابقة في هذا المجال.

كانت الترجمة في العصر الذهبي للدولة العباسية بابا ولج منه الكثير من العلماء العرب “المسلمون الذين اتقنوا اللغة العربية” إلى فكر وحضارة اليونان والهند والصين. لكن الإبداع لم يتأت لهم حتى هضموها وأعادوا وصفها باللغة العربية. فأصبحت متاحة بين أيدي تلاميذهم الذين سرعان ما انبتوا منها جنات وارفة الظلال من بساتين العلم في كل مجال، من الفيزياء إلى الطب والصيدلة والكيمياء والرياضيات والفلك والهندسة والموسيقى وعلوم النفس والاجتماع والسياسة والإدارة وغيرها كثير.

كذلك عندما انتقل العلم العربي إلى الغرب. بدأ ذلك بتعلم من أصبحوا علماء في الغرب للغة العربية، حتى أحاطوا بما اشتملت عليه كل الكتب التي حصلوا عليها بطريقة أو بأخرى من الحواضر العربية، ثم بدأوا بعد ذلك في طريق النهضة الأوروبية التي قامت على أيدي تلاميذهم الذين وعوا العلوم بلغتهم بعد أن أعادوا صياغتها عن أساتذتهم الذين أخذوها أصلا من العربية.

من هنا، فإن وصفنا وفهمنا للعلوم باللغة العربية هو أقرب وأيسر منالا الآن للشباب العربي، الذين يفترض بهم أن يفهموا تماما ويتفاعلوا مع المحتوى العربي صافيا خاليا من أية شوائب تشتت تصوراتهم وإدراكهم العميق والصحيح لكل ما يقرأون ويدرسون من العلوم الحديثة. لكن هذا يتطلب من الأساتذة والخبراء الآن الكتابة بغزارة والإيغال في صياغة معارفهم وتخصصاتهم بوضوح وسلاسة بلسان عربي مبين، فالمكتبة العربية تكاد تكون خاوية من المحتوى المبدع لوصف وتيسير العلوم والتكنولوجيا لأبناء الضاد بغية التأسيس والارتقاء بجيل عربي يفهم ويبني ويبتكر ويضع بصمة واضحة على صرح الحضارة الحديثة.

د. محمد عوض الله



unriyo