فيرنر هيزنبرج: العلم في زمن الحرب
يورد فيرنر هايزنبرج في كتابه “الجزء والكل محاورات في مضمار الفيزياء الذرية” الكثير من المحاورات التي تمت بينه وبين العديد من أقرانه من الفيزيائيين في ذلك الوقت ومنهم نيلز بور وفولفجانج باولي وماكس بلانك وألبرت أينشتاين وبول ديراك وغيرهم الكثيرون. ورغم الأهمية التاريخية والقيمة العلمية الكبيرة لما انطوت عليه تلك المحاورات، فأنني أود التوقف عند وصفه ومناقشته للظروف السياسية والعسكرية التي صاحبت فترة طويلة من مسيرته العلمية والعملية.
لقد مر هايزنبرج بتحدي الاستمرار في ألمانيا بعد وصول أدولف هتلر للحكم وتصاعد نفوذ حزب العمال القومي الاشتراكي (النازي) والذي فرض الكثير من القيود وشكل تحديات هائلة لتلك الفئة من العلماء الذين كانوا يعملون في مجال الفيزياء الذرية. كان ذلك قبل اكتشاف أوتوهان للانشطار النووي والذي بنى على أساسه العلماء في أمريكا بعد ذلك القنبلة النووية الأولى. كان القرار الذي ناقشه مع ماكس بلانك الذي كان آنذاك في السبعين من عمره، كان التحدي هو في اتخاذ القرار بالبقاء في ألمانيا أو المغادرة أسوة بالكثيرين من زملائه الذين لجأوا إلى الغرب لينجوا من الضغوط القهرية للحزب النازي وسلطته الذين كانوا يعملون على تسخير كل إمكانات البلاد في الحرب الطاحنة التي أعلنوها على جيرانهم، والتي كان هايزنبرج وأصدقاءه يرون فيها حربا عبثية وكارثة كبرى على ألمانيا والعالم. وكانت نصيحة ماكس بلانك له بالمغادرة، حيث رأى أن من العبث التفكير بالوقوف في وجه السلطة وعدم الانصياع لأوامرها بتسخير جهودهم العلمية في دعم المجهود الحربي.
ومع ذلك كان قرار هيزنبرج هو البقاء من أجل الإعداد للبناء بعد انتهاء الحرب وهزيمة النازية والتي كان هو وأصدقاؤه يرونها قادمة لا محالة. ورغم أنه دفع ثمنا غاليا لقراره هذا، وعاش هو وعائلته أياما مرعبة تحت القصف والدمار، فضلا عن مضايقات مسؤولي وضباط الدولة الذين أرادوا منه ومن فريقه العمل على بناء سلاح نووي. وقد كان ما توصل أليه وأبلغهم به في هذا الصدد أن بناء هذا السلاح يتطلب وقتا طويلا وتكاليف باهظة تجعله غير مجد على المدى القصير والمتوسط، ما جعلهم يصرفون النظر أخيرا عن هذا الامر.
ورغم أنه تم أسره من قبل قوات الحلفاء واحتجازه في بريطانيا لمدة ليست بالقصيرة، فإنه لم يفقد أيمانه بضرورة إعادة بناء الأجيال الجديدة من العلماء الذين كانوا ضمن الفريق الجديد من الشباب الذي أعاد بناء ألمانيا وأبقاها على مستواها المميز في الإنتاج العلمي والتكنولوجي، والذي جعل ألمانيا المدمرة المثخنة بالجراح تتصدر من جديد دول العالم المتقدم علميا وصناعيا واقتصاديا.
وهذا درس لكل العلماء العرب، في الوطن العربي وفي كل أنحاء العالم، الذين ينظرون بعين الأسى واليأس لما يعيشه الوطن العربي من ظروف متردية، ولما ألت إليه أحوال التعليم والبحث العلمي وانعدام الابتكار وإنتاج العلم والتكنولوجيا بين الشباب العربي، هذا درس للإعداد واستمرار العمل لدعم وتبني الشباب المبدع، بكل السبل الممكنة، ليشكل النواة التي ستنهض بالوطن والأمة، بعد انكشاف هذه الظروف وزوال هذه الغمة، وهي زائلة عاجلا أو آجلا إن شاء الله.
د. محمد عوض الله