أين وصل المعلم العربي
في السنوات الأخيرة وربما العقدين الأخيرين تآكلت الكثير من مظاهر التعلم بمعنى إقبال الشباب على العلوم برغبة وشغف بغية الارتقاء بمعارفهم وثقافتهم وتحسين مهاراتهم المعرفية والسلوكية. وأصبح الجيل ينحو تدريجيا نحو الاقتصاد في إعمال العقل. الاقتصاد بالمعنى السلبي الذي يتجنب كل ما يمكن أن يتطلب الدراسة والتفكير وبذل الجهد العقلي.
أصبحت ترى لغة الشباب مختصرة بعبارات قليلة، ثم أصبحت كلمات تقال فيفهم منها المراد، ثم تقلصت أكثر إلى رموز يسمونها “إيموجي” تحفل بها الهواتف الذكية التي أضحت هي وسيلة تواصل معظم الشباب فيما بينهم وما بين العالم ككل.
جميل ان يكون الشاب على تواصل بالعالم، لكن غير الجميل، بل والمقلق هو ان يكون التواصل مع مجهولين، لأن الأسماء والصور التي تستخدم في حسابات التواصل في الغالب مستعارة ولا تكشف عن حقيقة من وراءها. وربما كان هذا هو الدافع لتقليص التعبير المتبادل إلى رموز وإشارات مبهمة.
ذلك الاختصار من جهة، والتنوع الكبير في جهات التواصل من جهة أخرى، قلصت كثيرا المساحة الاستيعابية للطالب، بل وقلصت أكثر الزمن الذي يتحمله في التركيز في موضوع ما. فتجد أن الرسالة النصية إذا كان طولها أكثر من سطرين (وهذا يعني بضع كلمات لا أكثر) فأنها تعتبر طويلة ويتبرم الشباب أو الفتاة من قراءتها. فكيف به وهو مضطر لقراءة كتاب من خمسمائة صفحة مثلا؟ هنا بدأ اضمحلال عادة المطالعة، وأصبحت قراءة كتب المقررات عبئا ثقيلا ينوء تحته الطلبة.
….
وهكذا ظهرت المختصرات أو ما يسمى الدوسيهات التي تختصر للطالب كتاب المنهج إلى العُشر، مع ما يحمله هذا من إخلال فظيع بمحتوى الكتاب وما يفترض أن يتعلمه الطالب من كل صفحة منه. كان ظهور هذه المختصرات في البداية التسعينات وازدهرت مع نهاية الألفية، ثم بدأ عصر الفيديوهات والفلاشات، ثم اليوتيوب وحديثا المنصات، بدأت كلها تحل تدريجيا محل المختصرات منذ العقد الأول من هذا القرن إلى أن وصلنا إلى البرامج التفاعلية التي تنزل على الهاتف ويمكن للطالب من خلالها الدراسة وعمل الواجبات، ودراسة “المقررات” بل وتقديم الامتحانات واجتيازها وإحراز الشهادات.
ضاع إذن الكتاب وما يحمله من مهارات القراءة والاستيعاب والمراجعة والغوص العميق في المفاهيم والنقاش الغني للقضايا، وضاعت فنون المطالعة وأصبحت الثقافة في خطر عظيم. وفي وقت تضاعفت فيه المعارف الإنسانية أضعافا مضاعفة خلال سنوات قلائل، تقزمت واضمحلت معارف الطلبة ومهاراتهم بشكل خطير.
في هذه الأجواء، ما هو الدور الذي أصبح يتوقع من المعلم العربي القيام به؟ وكيف يمكن له أن يمارس التعليم بحده الأقصى من انخراط الطلبة وتفاعلهم وغوصهم في العمق، وتوليد الملكات وصقل المهارات في أجواء تدعو إلى الحد الأدنى من إعمال العقل وتفعيل المهارات، بل إلى اختصار وقت الدراسة ذاته إلى الحد الأدنى؟
هل يحمل المعلم مسؤولية تدني مستويات الأجيال الجديدة؟ وهل يطلب من المعلم تكييف عملية التعليم لتصبح مواكبة لهذه الأجواء؟ وليتدحرج الجميع نحو مزيد من التدهور والإخلال بالاحتياجات التعليمية، إرضاء للأجيال الحديثة وربما لآبائهم؟ أم أن عليه الصمود والإصرار على استكمال متطلبات التعليم الصحيح التي كانت سببا في ظهور علمائنا الكبار ذات يوم؟
وهذا سؤال أراه يفتقر للموضوعية، في ظل سيطرة الحكومات على رسم وتنفيذ سياسات التعليم، وهي التي تسن القوانين وتصدر القرارات وتضع المناهج، وتدير هذه العملية التي لا يكون دور المعلمين فيها إلا التنفيذ. فهل بعد ذلك يبقى من الإنصاف لوم المعلم العربي وتحميله إي جزء من المسؤولية عن هذا التردي؟