الجمعية العربية للفيزياء

تم خلال شهر نيسان الماضي إشهار الجمعية العربية للفيزياء بورشة عمل شارك فيها العديد من الفيزيائيين المرموقين من حملة جائزة نوبل في الفيزياء، حيث طرحوا موضوعات ساخنة في مجالات الفيزياء النظرية والتي تعبر الساحة الأوسع لأبحاث الفيزياء العميقة في هذه الأيام. كان إشهار هذه الجمعية إنجازا يشكر كل القائمين عليه، وهو في الحقيقة قد جاء متأخرا عقودا عديدة مقارنة بما وصلت إليه الأمم من التقدم في ميادين التعليم والبحث في الفيزياء، والعلوم البحتة والتطبيقية. ولعل هذه الجمعية تكون حاضنة مهمة لكل مشاريع العلماء من الشباب العربي، الذي تكاد تذبل آماله في أقسام الفيزياء بالجامعات العربية، بسبب تدني الاهتمامات الحقيقة في إدارات هذه الجامعات بدعم وتبني وتوفير مخصصات ومستلزمات البحث لهؤلاء الشباب. وإذا ألقينا نظرة على الأهداف والغايات التي وردت على الموقع الرسمي للجمعية فسوف نجد بوضوح النفس الجاد في دعم البحوث والتعليم والتعاون مع المؤسسات العلمية العالمية بهدف رفع سوية ومستوى العالم العربي في علم الفيزياء دراسة وتدريسا وبحوثا منشورة.

ولعل من المهم هنا أن نشير إلى حاجتنا الى التفاتة حقيقية لوضع تعليم الفيزياء والرياضيات خصوصا، والعلوم البحتة عموما في المدارس العربية. إذ أنه غني عن البيان ان الأوضاع في العالم العربي تهبط بالتعليم والمعلمين إجمالا إلى مراتب دنيا على سلم الأولويات. ولعل عزوف الشباب الذكور خاصة عن دراسة الفيزياء هو مؤشر قوي على أن هذا التخصص لا يكفل لحامله عملا يؤمن له العيش الكريم. وربما كان السبب الرئيسي في ابتعاد الشباب عن دراسة الفيزياء هو النظرة النمطية القائمة على أن مستقبل دارس الفيزياء هو التعليم ولا شيء سواه.

لذلك فإن هناك إشكالية مزدوجة تتمثل من جهة في العزوف عن دراسة الفيزياء كتخصص مستقبلي ما يجعل الذين يدرسون هذا التخصص من الطلبة هم الأقل كفاءة والذين يجدون فيه “شيئا أفضل من لا شيء” ومن جهة أخرى تندر أمثلة النجاح لخريجي تخصص الفيزياء الذين عملوا في مجالات غير التعليم، كالصناعة والزراعة وحتى مجالات أخرى كالتأمين ودراسات المخاطر والاستثمارات العلمية وسواها. لكل هذا ومزيد، نحتاج إلى جميعة عربية للفيزياء تعنى إلى جانب البحوث والنشر العلمي العالمي، بإعادة تكريس الفيزياء كتخصص مثمر ناجح ومرغوب توصل دراسته إلى مستقبل واعد يفيد البلاد والعباد على المدى المتوسط والبعيد. مثل هذه الجمعية المنشودة والتي يمكن ان تكون فرعا او قسما من الجمعية التي تم إشهارها، ينبغي أن تعمل على دراسة وإعادة تشكيل البنية التحتية لتعليم الفيزياء في العالم العربي، لتقوم بتقييم وتصحيح الآليات التي بموجبها يدرس الطلبة ويتخرجون من تخصص الفيزياء.  نحن بحاجة إلى رؤية لما بعد التخرج تفتح الآفاق للعمل في كافة المجالات التكنولوجية والتقنية لمن يرغب من الخريجين بحيث تصبح دراسة الفيزياء بابا لتحقيق الطموح العلمي والوظيفي والمادي أيضا.

هناك الكثير من التخصصات التي يمكن تأهيل الفيزيائي لشغلها والتي يؤدي فيها دوره بكفاءة واقتدار أكثر من بعض المهندسين، وذلك لإلمامه العميق بالمبادئ الأساسية التي تعمل فيها هذه المجالات. وقد أثبتت التجارب ذلك كثيرا، وعلى مدار السنوات الماضية كنت ترى كثيرا من الفيزيائيين بعد عمله في مجال من مجالات التكنولوجيا وخصوصا الصناعة، لا يلبث كثيرا حتى يبدأ مشروعه الخاص به وتجده ينجح ويكبر ويبدع أيضا. لا شك أن التعليم عمل جليل ومهنة مقدرة لها كل الاحترام، لكن موهبة التعليم لا تتوفر لكل من يدرس الفيزياء أو يعلمها، ومن هنا نجد الكثير من الخلل في وضع خريجي الفيزياء في سلك التعليم دون رغبة منهم أو حتى تحقيق الحد الأدنى من الكفاءة. حيث ينعكس ذلك سلبا على أجيال وأجيال من الطلبة الذين تنتشر بيهم (وبين آبائهم الذين كانوا طلبة قبلهم) كراهية مادة الفيزياء والنفور حتى من ذكر اسمها.

معلم الفيزياء ينبغي أولا أن يكون شغوفا بالفيزياء والعالم والطبيعة، يرى جمالا في كل ظاهرة ويحاول استقصاء كل غريب يشاهده أو يقرأ عنه. هذا الشغف هو أول ما ينتقل للطلبة فيحرك فيهم الرغبة في الاستكشاف وحب الاستطلاع، وهذا هو الدافع الأول لتبدأ رحلة الاستمتاع بالفيزياء والعلوم والتي ربما تؤدي ببعض هؤلاء الطلبة إلى الوقوف في مصاف كبار العلماء وربما إلى نوبل وسواها من الدرجات المرموقة، وهذا ما يفتقر إليه عالمنا العربي بشكل كبير منذ سنين طويلة ان لم تقل منذ قرون.

تحيات وأمنيات كبيرة للجمعية الفيزيائية العربية الوليدة وننظر إلى العمل مع إدارتها بكل قوة وزخم، لتناول التحديات الجمة التي تعيشها الفيزياء في العالم العربي. وربما كانت طموحات الشباب والطلبة العرب أعلى سقفا مما يتصور الجميع، ما يجعل معالجة هذه التحديات خلال فترة معقولة أمرا ليس بعيد المنال إن شاء الله.

د. محمد عوض الله

unriyo