ما هــو الزمــــن

time-5

 لا يعني جزء من ألف من الثانية أي شيء بالنسبة للإنسان الذي اعتاد على قياس الزمن بمقاييسه المألوفة لكن مثل هذه الفترات الزمنية أخذت تصادفنا في حياتنا العملية منذ وقت قريب فقط. وعندما عين الأقدمون الوقت تبعا لارتفاع الشمس أو لطول الظل لم يكن هناك مجال للحديث عن الدقة حتى لحد الدقيقة. فقد اعتبر الناس الدقيقة زمنا من الضآلة بمكان بحيث تنتفي الحاجة إلى قياسه لقد عاش الأقدمون حياة متوانية حيث لم تحتو ساعاتهم -الشمسية والمائية والرملية- على تقاسيم خاصة بالدقائق  أما عقرب الدقائق فقد ظهر على الساعة لأول مرة في مطلع القرن الثامن عشر كما ظهر عقرب الثواني في مطلع القرن التاسع عشر.

ما الذي يمكن أن نفعله في جزء من ألف من الثانية؟ أشياء كثيرة ‍‍فالقطار يستطيع خلال هذه الفترة الزمنية أن يقطع مسافة لا تزيد في الحقيقة على ثلاثة سنتيمترات فقط ويقطع الصوت مسافة قدرها 33سم وتقطع الطائرة مسافة تقدر بنصف متر تقريبا وتقطع الأرض أثناء دورانها حول الشمس مسافة قدرها 30مترا أما الضوء فيقطع مسافة تبلغ 300كم. ولو كان باستطاعة الحشرات المحيطة بنا أن تناقش الأمور لكان من المحتمل ألا تعتبر هذا الجزء من الألف من الثانية زمنا لا قيمة له إذ أن قيمته ملموسة تماما لدى الحشرات أن البعوضة تخفق بجناحيها ما يتراوح بين 500 و600 مرة في الثانية وهذا يعني أن البعوضة تستطيع في فترة جزء من ألف من الثانية أن ترفع جناحيها وتخفضهما.

أما الإنسان فلا يستطيع تحريك أعضاءه بمثل هذه السرعة كما تفعل البعوضة إن أسرع حركة لدينا هي طرفة العين (غمزة العين) أو اللحظة في مفهومها الأساسي وهي تتم بسرعة كبيرة بحيث لا تشعر معها حتى بانقطاع الرؤيا الوقتي ولكن البعض يعرف أن هذه الحركة التي تعني سرعة لا يمكن التعبير عنها تحدث بصورة بطيئة نوعا ما إذا ما قيست بأجزاء من ألف من الثانية. فقد سجلت المقاييس الحساسة أن طرفة العين بأكملها تستغرق في المعدل 2÷ 5 أي 400 جزء من ألف من الثانية وتتم هذه العملية على عدة مراحل، كما يلي:

أولا: إطباق الجفنين ويأخذ من الوقت ما يتراوح بين 75 و90 جزءا من ألف من الثانية .

ثانيا : سكون الجفن المطبق وعدم تحركه ويستغرق ما يتراوح بين 130 و170 جزءا من ألف من الثانية.

ثالثا: فتح الجفنين ويستغرق حوالي 170 جزءا من ألف من الثانية.

وكما نرى فإن (طرفة العين) الواحدة بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة هي فترة زمنية كبيرة نوعا ما حتى أن جفن العين يستطيع خلالها الراحة قليلا. ولو استطعنا أن نتخيل الصور المستقلة لما يحدث خلال جزء من ألف من الثانية لرأينا في طرفة العين الواحدة حركتين سلستين لجفن العين تفصلهما فترة استراحة ولو كان جهازنا العصبي مركبا بهذا الشكل لرأينا العالم المحيط بنا متغيرا كل التغير. وقد قام الكاتب الإنكليزي ويلز بوصف تلك الصور الغريبة التي كنا سنراها عندئذ بعيوننا وذلك في قصته (أحدث معجل). لقد تناول أبطال القصة دواءا وهميا يؤثر على الجهاز العصبي بحيث يجعل أعضاء الحس سريعة التأثر بسلسة الظواهر السريعة الحدوث. وهذه عدة أمثلة من القصة:

نظرت إلى الستارة فوجدت أنها جامدة وكانت زاويتها التي انحنت بتأثير الريح ثابتة في وضعها الأخير. فقلت له: لم أر مثل ذلك أبدا يا للغرابة؟! وهل رأيت مثل هذا؟ قال ذلك وبسط راحة يده التي تحمل القدح وتوقعت أن يحطم القدح ولكنه حتى لم يتزحزح إذا تعلق في الهواء بلا حراك وقال جيبيرن مواصلا الحديث: إنك تعلم بالطبع أن الجسم الساقط يقطع في الثانية الأولى مسافة 5م. والآن مسافة 5م. والآن يقطع القدح الأمتار الخمسة هذه في حين لم يمض حتى الآن جزء من مائة من الثانية وبإمكانك الآن تقدير قوة معجلي ثم هبط القدح ببطء وتلمسه جيبيرن من كافة جوانبه ونظرت من النافذة فرأيت راكب دراجة عادية جامدا في محله وخلفه غبار كثيف جامد وهو يحاول اللحاق بعربة خيول صغيرة جامدة في محلها أيضا ولفتت انتباهنا حافلة لنقل الركاب وهي جامدة تماما كالصخرة وكانت إطارات العجلات وقوائم الخيول وطرف السوط والفك السفلي للحوذي ( الذي بدأ توا بالتثاؤب ) كلها تتحرك ولو بصورة بطيئة أما بقية محتويات تلك الحافلة فقد جمدت تماما وكان الركاب الجالسون بداخلها أشبه بالتماثيل وقد جمد أحد الأشخاص بالضبط في تلك اللحظة التي بذل فيها قوة خارقة للعادة لكي يطوي جريدته بوجه الريح ولكن لم يكن للريح وجودا بالنسبة لنا إن كل ما قلته وفكرت فيه وفعلته منذ اللحظة التي تغلغل فيها المعجل في جسمي لم يكن إلا طرفة عين بالنسبة لبقية البشر كافة وللكون بأجمعه.

وربما سيكون ممتعا بالنسبة للقراء أن يطلعوا على أقل فترة زمنية يمكن قياسها بأحدث الأجهزة العلمية. لقد بلغت هذه الفترة الزمنية في مطلع القرن العشرين جزءا من عشرة آلاف من الثانية أما الآن فيستطيع الفيزيائي في مختبره أن يقيس زمنا يساوي جزءا من مائة مليار ( 1÷ 100000000000) من الثانية. إن هذه الفترة الزمنية تقل عن الثانية الواحدة بنفس المقدار الذي تقل فيه الثانية الواحدة عن 3000سنة. حينما كتب ويلز قصته (أحدث معجل) لم يكن يفكر على الأغلب في أن شيئا من هذا القبيل سيتحقق يوما ما بالفعل ولكنه على كل حال عاش إلى أن استطاع أن يرى بأم عينيه على الشاشة البيضاء فقط تلك الصور التي ابتكرتها مخيلته في وقت ما.

إن ما يسمى آلة تصوير الحركة البطيئة (التي ترينا على الشاشة البيضاء بحركة بطيئة ظواهر عديدة تحدث عادة بسرعة كبيرة) هي عبارة عن آلة تصوير سينمائية تلتقط في الثانية الواحدة عددا من الصور يزيد كثيرا على عدد ما تلتقطه آلات التصوير السينمائية العادية، البالغ 24 صورة وعندما نصور إحدى الظواهر بهذه الطريقة ونعرض الفيلم على الشاشة البيضاء بسرعة عادية (24 صورة في الثانية) نرى أن الظاهرة تستغرق وقتا أكبر من وقتها الطبيعي بكثير وربما يكون القارئ قد شاهد على الشاشة البيضاء بعض القفزات التي تحدث بسلاسة غير طبيعية، وغير ذلك من الظواهر البطيئة ويمكن بمساعدة آلات التصوير الأكثر تعقيدا الحصول على حركات أبطأ بكثير تذكرنا تقريبا بما جاء في قصة ويلز.

ظهر على صفحات الجرائد الباريسية في يوم ما إعلان يعرض على كل قارئ طريقة للقيام برحلة رخيصة ومريحة لا تكلفه أكثر من 25 سنتيما أي ربع فرنك. وقد صدق بعض المغفلين ذلك الإعلان وحولوا المبلغ المطلوب وبعد ذلك استلم كل منهم رسالة جوابية جاء فيها ( سيدي يرجى أن تبقى هادئا في سريرك وتذكر أن الأرض تدور فعند خط العرض 49- الذي تقع عليه باريس- تقطع سيادتك في اليوم الواحد أكثر من 25000 كم وإذا كنت من عشاق المناظر الجميلة أزح ستائر النافذة وافتتن بالسماء المرصعة بالنجوم). وعندما قدم المتهم بتدبير هذه الحيلة إلى المحكمة وسمع الحكم الصادر بحقه ودفع الغرامة المستحقة عليه وقف وقفة مسرحية وراح يردد كالمنتصر الجملة الشهيرة التي هتف بها غاليليو: ومع ذلك فإن الأرض تدور.

متى ندور حول الشمس أسرع نهارا أم ليلا؟

لقد كان المتهم محقا كما هو معروف لأن كل من يقطن الكرة الأرضية لا يتجول بالدوران حول محور الأرض فحسب بل تنقله الأرض بسرعة أكبر في دورانها حول الشمس. إن الأرض مع كافة قاطنيها تقطع في كل ثانية مسافة 30كم في الفراغ وهي في نفس الوقت تدور حول محورها. ويمكن بهذا الصدد طرح السؤال الطريف التالي متى ندور حول الشمس أسرع نهارا أم ليلا؟ أنه سؤال محير فدائما يكون في إحدى نصفي الكرة الأرضية نهار وفي النصف الأخر ليل فأي معنى لهذا السؤال؟ لا معنى له في الظاهر ولكن الأمر ليس كذلك فنحن لانسأل متى تتحرك الأرض برمتها حركة أسرع ولكن السؤال هو متى نتحرك نحن الذين نعيش على سطحها حركة أسرع وسط الكواكب وهذا السؤال ليس بدون معنى بتاتا. إننا في المنظومة الشمسية نقوم بحركتين: ندور حول الشمس وفى نفس الوقت ندور حول محور الأرض وكلتا الحركتان تجمعان ألا أن النتيجة تختلف تبعا لنصف الكرة الأرضية الذي نقع عليه هل هو النصف المظلم أم هو النصف المضاء بنور الشمس.

 لاحظ أن سرعة الدوران تضاف إلى السرعة الانتقالية للأرض عند منتصف الليل أما عند منتصف النهار فعلي العكس تطرح سرعة الدوران من السرعة الانتقالية وهذا يعني إننا في المنظومة الشمسية نتحرك عند منتصف الليل أسرع مما نتحرك عند منتصف النهار وبما أن نقاط خط الاستواء تقطع في الثانية الواحدة حوالي نصف كيلو متر فان الفرق بين السرعة عند منتصف النهار والسرعة عند منتصف الليل يصل في منطقة خط الاستواء إلى كيلو متر واحد في الثانية.

الصق قطعة ورق ملون على جانب إطار عجلة العربة ( أو عجلة الدراجة الهوائية ) وتتبع ما يحدث لها عندما تدور العجلة. سترى ظاهرة غريبة؛ تتميز الورقة الملونة بوضوح عند وقوعها في القسم السفلي من الإطار الدوار أما عند وقوعها في القسم العلوي منه فإنها تمر بسرعة كبيرة حتى لا تكاد العين تميزها. ويظهر من ذلك كأن القسم العلوي من العجلة يتحرك أسرع من القسم السفلي. ويمكن ملاحظة نفس الظاهرة إذا قارنا بين البرامق السفلى والبرامق العليا لعجلة دوارة في عربة ما وسنرى البرامق العليا وكأنها مندمجة في جسم واحد متماسك أما البرامق السفلى فتبدو بصورة منفردة. لقد تكرر حدوث نفس الشيء بالذات كما لو أن القسم العلوي من العجلة يتحرك أسرع من القسم السفلي. أين يمكن أذن لغز هذه الظاهرة الغريبة؟

إن المسألة بسيطة وليس هناك أي لغز؛ إذ أن القسم العلوي من العجلة الدوارة يتحرك في الحقيقة أسرع من القسم السفلي إن هذه الحقيقة تبدو للوهلة الأولى مستحيلة لكننا نقتنع بها بعد نقاش بسيط: إن كل نقطة من نقاط العجلة الدوارة تقوم بحركتين في وقت واحد تدور حول المحور وفي نفس الوقت تتحرك إلى الأمام مع ذلك المحور إن ما يحدث للعجلة هنا شبيه بما يحدث للأرض فعند جمع الحركتين تختلف النتيجة للقسم العلوي من العجلة عما هي عليه في القسم السفلي، ففي أعلى العجلة الدوارة تضاف حركة الدوران إلى الحركة الانتقالية وذلك لأنهما في اتجاه واحد أما في أسفل العجلة الدوارة فتكون حركة الدوران عكس الحركة الانتقالية لذا فأنها تطرح من الأخيرة ومن هنا يتضح سبب تحرك القسم العلوي للعجلة أسرع من القسم السفلي بالنسبة للمراقب الذي لا يتحرك.

كتاب : الفيزياء المسلية



unriyo