الثقوب السوداء مجددا ودائما..
منذ أن تنبأ العالم الألماني كارل سوارزتشايلد عام 1916 بوجود الثقوب السوداء وهو محو بحث وتساؤل بين الفيزيائيين وعلماء الفلك، حيث كان التنبؤ بوجود الثقوب السوداء أحد نتائج نظرية النسبية العامة لأينشتاين التي نشرها عام 1915. ومنذ ذلك الوقت وضعت الكثير من التصورات والحسابات الرياضية والنماذج الفيزيائية لاكتناه ما يمكن ان يكون الأمر عليه فعلا في المنطقة القريبة والمتوسطة حول الثقب الأسود. غير اننا بدأنا خلال الاعوام الاخيرة نشهد تقدما كبيرا في محاولات تجسيد ما يحدث حول الثقب الأسود من خلال رصد وتسجيل نبضات ودفقات الأشعة السينية التي ترسل من المنطقة القريبة من أفق الحدث، وهو ما يطلق على المنطقة المحيطة بالثقب الأسود حيث لا يمكن لشيء بعدها الإفلات منه ولا حتى الضوء. تتولد هذه الاشعة السينية من “انسحاق” ذرات أية بنية مادية تقترب من الثقب الأسود، في طريقها الى اجتياز أفق الحدث وهي تدخل منطقة المجهول الابدي. ويحدث هذا نتيجة الهبوط القسري للإلكترونيات القريبة من نوى هذه الذرات باتجاه تلك النوى ما يؤدي إلى انبعاث فوتونات الأشعة السينية في كل الاتجاهات، حيث يسقط بعضها داخل أفق الحدث “ويبتلعه” ظلام الثقب الأسود، بينما ينبعث بعضها الأخر بالاتجاه المعاكس، مفلتة بذلك من أفق الحدث ومنطلقة نحو الفضاء كأنما لتصرخ مصرحة بما يحدث لذراتها وبالتالي للكيان المادي الذي جاءت منه.
ونظرا لقوانين حفظ الزخم الزاوي في الميكانيكا الكلاسيكية، ونظرا لضخامة كتلة الثقب الأسود (رغم صغر حجمه نسبيا)، فإن اي جسم عابر للمنطقة، حين يمر مقتربا منه، سيخضع لجاذبيته الهائلة، والتي تجعل انحراف مسار الجسم العابر أكثر انحناء كلما كانت كتلته صغيرة، في حين يبقى الثقب الأسود محافظا على استقراره نسبيا في موضعه. أما إذا كان الجسم العابر نجما ذا كتلة معتبرة تقارن بكتلة الثقب الأسود، فعندها سيضطر الثقب الأسود للدخول فيما يشبه الرقصة الثنائية مع النجم، بحيث يدور كلاهما حول نقطة بينهما تكون في المنتصف تماما إذا كانت الكتلتان (للنجم والثقب الأسود) متساويتين، والا فتكون أقرب للأكبر كتلة منهما. ويبدأ هذا الدوران بطيئا لكنه يزداد سرعة باقتراب النجم أكثر فأكثر، وهذا ببساطة لحفظ الزخم الزاوي للنظام (النجم والثقب الاسود).
وحيث ان الثقب الاسود صلد متماسك، وحيث ان النجم غالبا رخو مكون من غازات يمكنها التمدد والتطاول تحت تأثير جاذبية الثقب الأسود الهائلة، فإننا نرى بداية “اندلاق” كتل الغاز الخارجية للنجم مسحوبة بجاذبية الثقب الأسود، مما يجعل الأمر يبدو من بعيد وكأن المادة تنصب من جسم النجم داخل الثقب الأسود، مع استمرار النظام في الدوران الثنائي حول مركز كتلته. وفي هذه الأثناء، لا بد لذرات الغاز والمادة النجمية وهي تنسحق قبل أفق الحدث من إطلاق “صرخاتها” بشكل اشعة سينية تنبعث في كل اتجاه، لكن ما ينجو منها بكثافة أكبر يمكن ملاحظتها هي تلك الدفقات التي تتجه مباشرة بعيدا عن اتجاه الثقب الاسود، لذلك نرى وكأن انبعاث الاشعة السينية انما يحدث بالاتجاهين المتعاكسين لطرفي محور دوران النجم المادة المنصبة حول الثقب الأسود. ويستمر هذا حتى يتم ابتلاع كامل مادة النجم داخل الثقب الأسود وعندها يتوقف انبعاث الأشعة السينية وتخمد كل أشكال الاضطراب والحركة ويعود محيط الثقب الأسود الى الصمت والظلام السابق الى ان يمر صيد جديد ضمن منطقة تأثير جاذبية الثقب الأسود، حيث تبدأ عنها رقصة جديد وترى بعد قليل (ربما بضع سنوات) الأشعة السينية تنبعث من جديد إيذانا ببدء عملية الابتلاع.