الحرارة والانتروبي

أتناول في هذه المشاركة كمية فيزيائية مهمة في علم التحريك الحراري (الديناميكا الحرارية)، وهي الانتروبي، وعلاقتها مع تغير الطاقة الحرارية ودرجة الحرارة..

تخيل معي ما يلي:

خذ بيدك كبشة من ذرات (غاز) الهيليوم في درجة حرارة الغرفة (أو لنقل 300 كلفن). ضع هذه الكبشة (القبضة) في مكان ناء بين النجوم.. مكان لا يوجد فيه أي شيء.. أي شيء مطلقا، لا إشعاع ولا غبار ولا أي شيء.. الآن افتح قبضة يدك وهي ساكنة ببطء، كي لا تتحرك كتلة الغاز. أفلت الكتلة بهدوء، دعها هناك وبهدوء شديد عد من حيث أتيت..

الآن ما الذي يفترض أن يحدث لهذه المجموعة من ذرات الهيليوم؟

-سوف تنتشر في الفضاء…

-ماذا يعني ذلك؟

يعني سوف تتحرك كل واحدة من هذه الذرات “مبتعدة” عن مركز الكتلة في كل الاتجاهات..

-لماذا؟ تنافر؟ لاحظ أن الهيليوم غاز خامل، وأن المدار الالكتروني الأخير في ذرته ممتلئ، يعني هذه الذرات يصعب أن تتفاعل..

-طيب؟

-طيب!! ومع ذلك تتباعد، أليس المفروض أن كلا منها كانت ساكنة ابتداء؟ ما الذي يحركها إذن؟”

هنا نقف عند هذا السؤال فنقول أن ما تم وصفه أعلاه ببساطة غير صحيح.. أو غير علمي.

لا يمكنك وضع كتلة من الغاز في “قبضة يدك” لأنها ببساطة سوف تتسرب. ولا يمكنك معاملتها كما تعامل كبشة من “القضامة”. لماذا؟ لأن ذرات الغاز تتحرك بسرعة كبيرة وتتصادم فيما بينها وتتصادم أيضا مع قبضة يدك.. وحيث أن هناك فتحات بين أصابعك فسوف تجد طريقها سريعا للهرب (أو التسرب)..

ولكن لماذا تتحرك؟ ما الذي حركها؟

حسنا لنبدأ الحكاية من البداية.

الهيليوم غاز خامل، ما يعني أنه يمكننا معاملته كأقرب ما يكون للغاز المثالي.. الذي لا يتفاعل مع بعضه وكتلته الذرية صغيرة جدا بالنسبة لبقية العناصر. فإذا قلنا انه في درجة حرارة الغرفة (حوالي 300 كلفن)، فماذا يعني ذلك؟ ولماذا تهمنا درجة حرارته هنا؟

حسب النظرية الحركية للغازات يعرف “معدل” طاقة حركة “تكتل” من الغاز، بأنه ثلاثة أنصاف “ثابت بولتزمان” مضروبا بدرجة الحرارة (بالكلفن). ما يعني أن درجة حرارة الغاز هي مقياس لمعدل طاقة حركة جزيئاته. وثابت بولتزمان هذا من الرتبة10-23 ، لكننا لو أردنا حساب سرعة ذرة الهيليوم، فعلينا أن نقسم على كتلة ذرة الهيليوم وهي من الرتبة 10-27، وخلاصة ذلك أن معدل سرعة ذرات الهيليوم عندها سيكون حوالي 1400 متر/ ثانية، وهذه سرعة هائلة ربما تفوق سرعة الرصاصة. تخيل هنا أن معظم الذرات ستتحرك بهذه السرعة في كل الاتجاهات داخل قبضة يدك، وما أن تصطدم بجدار حتى ترتد باحثة عن مخرج حتى تهرب.. كلها..

حسنا إذن.. دعنا نضعها في قارورة محكمة الإغلاق، وعازلة تماما للحرارة، بحيث تكون درجة الحرارة داخل القارورة هي درجة حرارة الغرفة، وستبقى كذلك حتى نصل المكان المستهدف بين النجوم.. لكن دعنا نلقي نظرة مجهرية على ما يحدث.

 تتحرك الذرات داخل القارورة بالسرعة التي ذكرناها أعلاه وباتجاهات عشوائية. وتتصادم بشكل مطرد فيما بينها وتصطدم بجدران القارورة بلا توقف. وإذا كانت هذه التصادمات تامة المرونة فلن تفقد هذه الذرات أي جزء من طاقة حركتها، وستبقى إذن درجة حرارة هذا التكتل الغازي ثابتة (تبعا لثبات معدل طاقة حركة الذرات).

 طيب.. الآن نصل المكان الموعود بين النجوم، ونفتح هذه القارورة، وعندها ستكون معظم ذرات الهيليوم خارجها خلال لحظات. طيب وماذا بعد؟؟

ستبدأ ذرات الهيليوم بالانتشار، فضاء فسيح ولا شيء يصدها. سوف تسير بلا عائق.. وإذن، ثوان معدودة وسوف تجد أن ما تبقى من هذه الذرات في محيط  المكان قليل لا يكاد يذكر. كيف يمكن أن نصف ما حدث لهذه الكتلة الغازية؟

 لنبدأ بدرجة الحراة، ما هي درجة حرارة هذا التكتل من الذرات؟

حسنا، هذا السؤال لا معنى له، فدرجة الحرارة كمية جاهرية، يجب أن تكون هناك كمية كبيرة فعلا من الجزيئات كي يؤخذ معدل طاقتها الحركية وتحسب منها درجة حرارة لها معنى. إذا كنت تستغرب ذلك، فتعال معي ننظر في معنى السؤال: ما هي كثافة ذرة أكسجين؟ مثلا. هل هناك معنى لحساب كثافة غاز الأكسجين من وجود ذرة واحدة؟ أو حتى عشرة؟

طيب وإذن، ما هي الكمية الفيزيائية التي تهمنا هنا؟

حيث أن كلا من ذرات الهيليوم قد انطلقت في الفراغ دون أى انتقاص من طاقتها الحركية، وحيث أن الذرات قد توزعت في كل الاتجاهات، فهذه الكتلة من الغاز إذن قد تمددت بشكل هائل، وحيث أنها لم تصادف أي شيء تدفعه في طريقها، إي لم تبذل أي شغل في تمددها هذا، فهذه العملية تسمى “التمدد الحر”. وفيه تحتفظ كتلة الغاز بكامل طاقتها الكلية، غير أن هذه الطاقة قد توزعت الآن على حجم هائل في الفضاء.

مفهوم انتشار الطاقة هذا هو الاقرب لتعريف “الانتروبي”.. فعندما تكون الطاقة “مركزة” في حيز محدد فان انتشارها يكون محدودا، وعليه نقول أن الانتروبي قليل، فاذا ضاعفنا الحجم المكاني لتنتشر فيه الطاقة، كان هذا زيادة في الانتروبي..

طيب دعنا نفهم معنى ذلك بهدوء..

لنبدا بوعاء (صندوق) مكعب الشكل عازل للحرارة ومفرغ تماما، ولنقل أنه مقسوم بغشاء حاجز إلى نصفين متساويين في الحجم. الآن قمنا بحقن النصف الأيمن بكمية من غاز الهيليوم بدرجة حرارة الغرفة، بينما بقي النصف الأيسر مفرغا. نقول هنا أن كل الطاقة التي تحملها ذرات الهيليوم تتركز في نصف الأيمن من الصندوق، بينما لا توجد في النصف الأيسر أية شذرة من الطاقة. وللتنبيه هنا، نحن نتكلم فقط عن الطاقة الحركية المحمولة في ذرات الهيليوم. فنقول إذن أن الانتروبي الكلي للنظام (الصندوق وما فيه) يترافق مع الغاز الموجود في النصف الأيمن، بينما قيمة الانتروبي في النصف الأيسر هي صفر.

الآن لو أزلنا الغشاء الفاصل بين النصفين، وانتظرنا برهة، فسوف نجد أن الهيليوم في النصف الأيمن قد تمدد وانتشر فملأ النصفين كليهما وتوزع في حجم الصندوق بشكل منتظم. هنا ظلت كمية الطاقة هي نفسها، بلا زيادة ولا نقصان، وهي مجموع ما تحمله كل ذرات الهيليوم من طاقة. ولكن في نفس الوقت يكون “انتشار” هذه الطاقة قد زاد، أو إذا أحببتم، الحيز الحجمي الذي توزعت فيه الطاقة، وهذا الذي نشير إليه بالانتروبي. فنقول أن قيمة الانتروبي للنظام في هذه العملية قد زادت. وقد درجت العادة أن يُفهم الانتروبي أو يعرّف بأنه “درجة الاضطراب” أو “الفوضى” في النظام، لكن الأقرب للوصف الصحيح هو “انتشار الطاقة”.

والسؤال الآن، هل يمكن بأية طريقة من الطرق، عودة ذرات الهيليوم “تلقائيا” لتحصر نفسها في النصف لأيمن من الصندوق، ونعيد الغشاء كما كان سابقا، دون أي “تدخل” خارجي؟  أي دون الحاجة إلى بذل شغل إضافي عليها؟؟!! من كل الظواهر الطبيعية، ومن كل تجربتنا العملية المتراكمة تؤكد أن الجواب قطعاً هو “لا” !!..

والواقع أن معظم الظواهر والعمليات الطبيعية تسير تلقائيا في اتجاه واحد لا يمكن عكسه، إلا ببذل شغل إضافي يجبرها على الذهاب بالاتجاه المعاكس. من أمثلة ذلك، أنك إذا ثقبت إطارا فالهواء يخرج منه تلقائيا، لكن لا يمكنك جعل الهواء يعود فيدخل إليه تلقائيا إلا ببذل شغل خارجي (من خلال منفاخ الإطارات مثلا). والحرارة تنتقل من الجسم الساخن إلى البارد تلقائيا، لكن لا تنتقل من البارد إلى الساخن إلا ببذل شغل خارجي (كما في الثلاجة مثلا). والحجر يسقط على الأرض تلقائيا، لكنه لا يعود إلا بشغل خارجي، والماء يسيل من الأعلى إلى الأسفل تلقائيا..  وهكذا نجد أن هناك اتجاها تسير وفقا له كل العمليات الفيزيائية، هذا الاتجاه يسير مع سير الزمن، ويسمى أحيانا سهم الزمان.. فهذه العمليات لا يمكن تسير للوراء إلا ربما برجوع اتجاه الزمان للوراء. كذلك سير العمليات الفيزيائية يتجه دائما بالاتجاه الذي يزيد فيه الانتروبي، وأي اتجاه يقل فيه الانتروبي لا يحدث تلقائيا إلا بتدخل وبذل شغل خارجي على النظام.

طيب، لنعد الآن إلى “كبشة” الهيليوم، التي أصبحت تنتشر الآن عبر حجم ضخم من الفضاء، هل يمكن أن نقول أنها قد خسرت طاقتها؟ الواقع أن لا.. لأن كل ذرة هيلوم لا تزال تحتفظ بطاقتها الحركية نفسها، ولو تسنى لنا أن نحسب مجموع طاقاتها لوجدنا أنها نفسها الطاقة الكلية لها قبل مغادرة القارورة. وسوف أتناول في الحلقة القادمة بمشيئة الله، ربط الانتروبي ببعض الكميات الفيزيائية الأخرى في علم التحريك الحراري.

محمد عوض الله



unriyo