وداعا سائد دبابنة

بعد رحيل الدكتور سائد دبابنة، وغيابه عن عائلته وطلبته ومختبره، تجول في خاطري هذه الكلمات، وقد بت أسمع اسمه يقترن بعبارة: الله يرحمه..

لم يغيب الموت رجلا أكاديميا من الطراز العادي الذي تزدحم بأمثاله الجامعات العربية، لكنه غيب رائدا من رواد العلم الذين آمنوا بدعم وصناعة الشباب ليقودوا المسيرة العلمية في ظروف اليأس والتردي والتخلف. رائد آمن بحلم وكرس جهده ووقته وحياته لتحقيقه. وقطع شوطا كبيرا في ذلك قبل أن يسلم الراية لفريقه البحثي.. ويمضي.

لن أتحدث هنا عن شخصية الأستاذ الدكتور عميد البحث العلمي والشخصية العلمية الأردنية العربية الأصيلة، المرموقة، المخلصة والنظيفة، التي بات يعد أمثالها على الأصابع في هذه الأيام. لكنني سأتحدث عن أخي وصديقي الذي ترجل فجر هذا اليوم. سأتحدث عن سائد دبابنة، طالب الماجستير في الجامعة الاردنية، ذلك الذي عرفته حينها وأنا أيضا طالب في بداية برنامج الماجستير. كان الطالب الذي يعمل بجد ونشاط عرفه بهما كل من كان في قسم الفيزياء في ذلك الوقت في بداية التسعينات. منذ عرفته ومشاريعه كبيرة، وطموحاته لا تنتهي، وتخرج سائد وعمل فيقسم الفيزياء وظل النشيط المثابر والودود البشوش ذو الشخصية الجذابة. وانتقل إلى جامعة البلقاء التطبيقية، واتصل بي يخبرني أن الجامعة تطلب فيزيائيين للعمل في مشروع قادم وطلب مني أن أقدم طلب توظيف. والتحقت بالبلقاء واستلمت تأسيس مختبر القياسات الاشعاعية مع اخي وصديقي إبراهيم الحمارنة الذي كان سائد ايضا هو من رشحه للعمل في جامعة البلقاء. مكثنا نعمل معا عاما في البلقاء ليغادرها سائد إلى ألمانيا لدراسة الدكتوراه.

خلال هذا العام عملنا سوية وانجزنا الكثير في التأسيس مع الفريق الذي ضم ايضا استاذنا محمد شادرما وتحت اشراف د. منير دبابنة الي قدم الكثير من الدعم والتسهيلات لتصبح لدينا كلية علوم عمرها سنتان تعمل بمعايير عالية. كان دور سائد محوريا في عملية التأسيس. كان صلة الوصل بين رئيس الجامعة د. خالد طوقان وعميد الكلية د. عيسى خبيص وبين جميع أعضاء الفريق وكان المحرك والدافع لكثير من الإنجازات..

وحتى خلال وجوده في ألمانيا وخلال زياراته للبلقاء كان دائم التحدث عن المشاريع والافكار التي تهدف لتطوير العمل في الكلية. وبعد عودته من ألمانيا وانضمامه للكادر التدريسي كان عنصر لقاء وتواصل بين الجامعة وهيئات البحث العلمي داخل الأردن وخارجه.. وكان برنامج ماجستير الفيزياء النوو

ية في البلقاء شغله الشاغل حتى أصبح حقيقة واقعة وتخرج منه العديد من الفرسان من الشباب والبنات الذين أصبحوا الآن كوادر أكاديمية وبحثية في الأردن وفي العديد من جامعات ومعاهد العالم..

ولم يخفت عطاء سائد بعد ان أصبح عميد البحث العلمي في البلقاء، بل ازداد تألقا وبلغ مستوى غير مسبوق من الاحترافية والعالمية. كان يجمع بين الإدارة والتميز العلمي. فعلاوة على فتح الفرص أمام شباب الجامعة للانخراط في برامج التدريب والدراسات العليا محليا وعالميا، استطاع الحصول على أعلى منحة بحثية في ألمانيا وقضى منها فترة هناك واستطاع الحصول مع فريقه على دعم صندوق البحث العلمي في الأردن. والذي كرسه لبناء مختبر حديث للبحوث في مجال كشف الإشعاع، بفريق متميز وبرنامج طموح جدا.

كنت كلما عدت الى عمان زرته في بيته، فكان حماسه لا ينتهي لإنشاء هذا التخصص او بدء هذا المشروع أو استحداث ذلك المساق. كان آخر مشروع تحدثنا فيه ولم ير النور هو تخصص الهندسة الفيزيائية الذي رأى الان الحاجة والضرورة الملحة للعمل على إنشائه في ضوء الاحتياجات والمتغيرات في السوق العالمية. كان متحمسا لهذا التخصص وكانت النية أن يزورنا في الولايات المتحدة خلال هذا الصيف للقاء بعض الأساتذة في جامعات أمريكية وكندية لترتيب تعاون علمي وفني مع الجامعة. لكن قدر الله أتى ولا راد لقدره..

في شهر آب العام الماضي في مختبر القياسات الإشعاعية، التقيت الفريق البحثي المميز بشبابه وبناته الذين يعملون ليلا ونهارا لإنتاج علمي جديد لا يقل مستواه عما تنتجه كبريات مدارس ومعاهد البحوث العالمية، وقد كان تعليق أحد اساتذة الفيزياء النووية في جامعة أوستن تكساس بعد أن أطلعته على عمل الفريق وبعد تواصله مع سائد حول نشاط فريق المختبر قال لي ان ما يعملونه يستحق الإعجاب والتقدير فعلا، وسوف يسرني بالتأكيد العمل معهم.. كان سائد متحمسا جدا وهو يعطيني ايجازا عن نظام الكواشف الاشعاعية الجديد الذي يبنيه وفريقه جزءا جزءا.. وكان يتحدث عن نشر أوراق بحثية يقدمها هؤلاء الطلبة في المؤتمرات العالمية. وكان وهو يمارس مهامه كعميد، يجتمع بشكل دوري مع فريقه الذي تقوده طالبته النجيبة المتميزة الدكتورة إشراق عبابنة، وحتى بعد أن تم تشخيص مرضه ظل يتابع العمل معهم وفي العمادة حتى وصل النقطة التي لم يعد المرض يسمح له فيها بالمزيد..

 

كان آخر لقاء جمعني بسائد بعد اسبوع من لقائنا في المحتبر، كان ذلك لقاؤنا في منزل أستاذنا د. همام غصيب، أسناذنا الحبيب الذي جلسنا في محاضراته ساعات طويلة نستمتع بالتحليق في عالم الفيزياء. قال لي سائد ذات يوم: “في محاضرة د. همام، أود أن أضع كاسة شاي، وأكوع واستمتع بالاستماع له للصبح”. أطال الله في عمر أستاذنا إبي الحارث، ومتعه بموفور الصحة والعافية.

 

 

رحم الله فارس العلماء والباحثين الذي ترجل مبكرا، ولنا العزاء في فريقه العلمي الذي نثق بأنه سيحمل الرسالة ويواصل الإنجاز والإنتاج العلمي والذي سيكون بإذن الله مثلا أعلى لكل باحثي وعلماء الوطن والأمة..

د. محمد عوض الله



unriyo